روائع مختارة | قطوف إيمانية | الرقائق (قوت القلوب) | البر.. مفهومه وأسبابه ـ وجوهه وموانعه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > الرقائق (قوت القلوب) > البر.. مفهومه وأسبابه ـ وجوهه وموانعه


  البر.. مفهومه وأسبابه ـ وجوهه وموانعه
     عدد مرات المشاهدة: 2570        عدد مرات الإرسال: 0

 بسم الله الرحمن الرحيم..  مسائل الموضوع: - الأولى: مفهوم بِرّ الوالدين.  - الثانية: سبب البِرّ. - الثالثة: أوجه البِرّ. - الرابعة: موانع البِرّ.

- المسألة الأولى: مفهوم بِرّ الوالدين.

(البِرّ) بكسر الباء: اسم جامع لكل معاني الخير من صدق وطاعة وعطف ورحمة وإحسان.

يقال: بَرّ في يمينه. أي صدق؛ إذا أمضاه وأنجزه. وفي قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} أي ليست الطاعة الصلاة وحدها. وقال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.

أي لن تنالوا الخير الكامل والدرجة الرفيعة إلا بالإنفاق مما تحبون. ومن أوصاف الله تعالى البَرّ في قوله تعالى: {إنه هو البر الرحيم}، أي المحسن إلى عباده، الرحيم بهم، الصادق فيما وعدهم به، ويقال: بَرّ أبويه؛ إذا أطاعهما، فالبر بالوالدين معناه إذن:

فعل الخير إليهما: إحسانا، ورحمة، وطاعة، وصدقا، من غير انقطاع، ولا ملل، ولا تأفف.

ويشترط في بِرّهما أن يكون في طاعة الله تعالى؛ فيما أوجبه، واستحبه، وفيما أباحه، ولا بأس في طاعتهما في المكروه، وهو: ما يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله. إذا اقتضى الأمر ذلك.

أما المحرم، وهو: ما يثاب تاركه، ويستحق العقوبة فاعله، فلا يطاعون فيه، لأن القاعدة تنص على أنه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.

قال الله تعالى: {وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلاتطعهما}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف). فطاعة الله تعالى مقدم على طاعة الكل، لأن حقه أوجب.

لكن عصيانهما في المنكر المحرم لا يبيح هجرهما ومفارقتهما والإغلاظ في الكلام، ولو كان شركا أكبر، بل يصبر عليهما، ويحسن إليهما، لأن لهما ميزة على غيرهما، قال تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي}.

والوالدان هما الأبوان المباشران للولد؛ أي الأب الذي من نطفته ومائه كان الولد، والأم التي حملته في بطنها من ذلك الأب، ثم وضعته، وأرضعته، واحتضنته، ورعته. هذان هما اللذان لهما هذه الفضل.

ولا يدخل معهما في وجوب البر المطلق من أطلق عليهما وصف الوالدين بسبب من رضاع، وكذا الآباء والأمهات العالون؛ أي الأجداد والجدات، فإنهم يسمون آباء وأمهات.

فهؤلاء لهم بِرّ لا يبلغ بِرّ الوالدين المباشرين، فالنصوص حددت من لهم البِرّ المطلق، حيث قال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}.

فهما كان سببا وجوده، وهذا المعنى غير موجود في الآباء بسبب، فالأبوان لهما البِرّ المطلق، وأما الأبوان بالإضافة فلهما مطلق البِرّ.

* * *

- المسألة الثانية: سبب البِرّ.

مبدأ البِرّ يقوم على: المكافأة. من جهتين:

- الجهة الأولى: المكافأة من الولد لوالديه جزاء أنهما كان سببا في وجوده، ولما تحملاه من أجله.

قال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالدين إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، فعلة البِرّ هنا هو الحمل والرضاع والحضانه، فالبِرّ إذن مكافأة على إحسان سابق.

- والجهة الثانية: المكافأة التي يرجوها البارّ، إن هو بر بوالديه، من ولده بعدئذ أن يبره.

قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، وقال: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}، وقد قيل: "اسمح يسمح لك"، "الناس مجزيون بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر".[كشف الخفاء 1 332] وهي سنة معروفة بين البشر.

فهذا تعليل هذا الأمر الإلهي، والأصل فيه أن الله تعالى أمر به، وما أمر به فهو واجب، لكن علته المكافأة للإحسان السابق من الوالدين، وطلب المكافأة اللاحقة من الولد.

فمهما كان الحال فعلى الولد بِرّ والديه، سواء أحسنا إليه أو أساءا وقصرا، فإنه إذا انتفى إحسانهما لم تنتف أسباب البِرّ الأخرى، مثل البِرّ بهما طلبا لبر الولد، ومثل البِرّ بهما لأنهما سبب الوجود، ولأن الإحسان في عمومه موجب للثواب والمغفرة، فكيف بمن أمر الله تعالى بالإحسان إليهما؟.

وهنا ننبه إلى أن الأم فضلت على الأب في البر، سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟، قال: أمك. ثم أمك. ثم أمك. ثم قال في الرابعة: أبوك.

فالأم تتحمل عبئا أكبر من عبء الأب، فهو يبذر شهوة، وهي تزرع وتنمي كرها، وتحصد وتضع كرها، فبطنها للولد وعاء، وصدرها غذاء، وهي أعطف، وأصبر، وأرحم، وأصدق عاطفة.

* * *

- المسألة الثالثة: أوجه البِرّ.

مما يدل على عظمة البِرّ بالوالدين: أنه قرن بعبادة الله تعالى وحده، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}، وقد بينت الآيات أوجه البِرّ المامور بها، قال تعالى:

{إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولاتنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا * ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا}.

فالبِرّ يكون بما يلي: بضبط اللفظ، وإحسان المنطق، وخفض الجناح، والدعاء لهما.

- أولا: ضبط اللفظ:

فقد نهى عن اللفظ القاسي فقال: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما}، نهى عن التأفف، لأن فيه جرح لمشاعرهما، فمحبة الوالدين للولد والتعلق به، وتوقع الإحسان منه لما تقدم من الإحسان إليه.

يحمل على التأثر بأدنى اعتراض أو ضجر، خاصة حال الكبر، فقلب الأبوين مع الولد كورقة الرقيقة، وضعت أمام الفم فإنها تتأثر بالهواء الخارج من الفم حين قول: "أف"، فتضطرب وتخرج عن حالة الاستقرار.

والتأفف ليس من أخلاق المؤمنين البارّين، بل من أخلاق الكافرين العاقّين، كما قال تعالى: {والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين * أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين}.

والقاعدة تنص على: أنه إذا نهى الصغيرة فالكبيرة من باب أولى. فإن النهي عن التأفف يتضمن النهي عما هو أكبر منه، من سبّ، أو لعن، أو ضرب، أو إهانة أو أي نوع من الأذى.

- ثانيا: إحسان المنطق:

والبِرّ لا يقف عند منع اللفظ من سوء الأدب، بل الولد مأمور بأن يكون إيجابيا مبادرا، وذلك بالقول الكريم لهما: {وقل لهما قولا كريما}، والقول الكريم هو أحسن الكلام وأطيبه، وأرضاه للوالدين، ما فيه تذلل وتقدير واحترام كامل، فلا يناديهما بأسمائها، بل يقول: أبتاه، أماه. ويخاطبهما خطاب العبد الذليل المذنب مع سيده الفظ الغليظ، ولا يرفع صوته عليهما.

- ثالثا: خفض الجناح:

كما قال تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}، فيتودد لهما باللين والذل، كتذلل وتودد الرعية للأمير والعبد للسيد، وقد استعير للذل جناحان، ليصور حال الولد.

فالطائر إذا أراد العلو والخيلاء رفع جناحيه وبسطهما، وإذا أراد الخفض والاستكانة خفض جناحيه وضمهما، فكذلك الولد مع أبويه عليه أن يضم يديه إلى نفسه، ويدني رأسه من صدره، مظهرا الذل والاستكانة.

- رابعا: الدعاء:

ومن البِرّ الدعاء لهما، أحياء وأمواتا: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}، وهذا دعاء في غاية الرقة، وفيه علة تخصيصهما بالدعاء: أنهما ربياه صغيرا. ولا يفهم هذا الحال على حقيقته إلا من حرم الأبوين حال الصغر، هو الذي يعرف قدر الأبوين، فالولد في حال صغره أشد ما يكون حاجة إلى من يرعاه رعاية خاصة، فيها اللطف والرحمة والحب والتضحية والاحتساب.

وهذا لا يجده أبدا عند غير الأبوين، وقد جاء الأمر بالبِرّ بالوالدين حال كبرهما: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما}، لأنهما في هذا الحال يعودان في الحاجة إلى الرعاية المطلقة، والعطف المطلق، كحاجة الصغير وأشد، فكان على الولد أن يكافئهما كما ربياه صغيرا، أن يرعاهما كبيرين، فالضعف فيهما واحد.

وقد روي أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلا يحمل أمه يحج بها، فقال له: "هل أديت حقها؟، قال ابن عمر: ولا طلقة من طلقاتها".

وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟، قال: الصلاة على وقتها. قال: ثم أي؟، قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟، قال: الجهاد في سبيل الله).

* * *

- المسألة الرابعة: موانع البِرّ.

موانع البر إما أن يكون من الولد أو من الوالدين: فأما من جهة الولد:

- فما يرتكبه من المعصية موجب للعقوق، فإن المعتاد على المعاصي المصر عليها، يصاب بالضنك والضيق، كما قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}، وإذا ضاق وضجر فأول من يستقبلهم بهذا الخلق قرابته وأهله، وبالخصوص منهم من هو ضعيف، كالوالدين حال الكبر، فيسيء الخلق معهما.

- وكذا الجهل بحق الوالدين من البِرّ، فإن بعض الناس لا يعرفون حقوق الأبوين، وربما عرفوها على وجه الإجمال، لكن لا يعرفون تفاصيلها، فيقعون في أنواع من العقوق سببه جهلهم، العلاج التفقه في الدين.

وأما من جهة الوالدين:

- فما يرتكبه الوالدان من المعاصي موجب لعقوق الأولاد، لأن المعاصي شؤم، وهي موجبة للسقوط وزوال التقدير والاحترام، ورؤية الوالدين يقترفان المعاصي الظاهرة المنافية للفطر مما يفقدهما البِرّ.

- وكذا العقوق السابق، بأن يكونا أو أحدهما قد أساء مع والديه عقوقا فيما سلف، فعوقبا بعقوق أبنائهما، وقد قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}.

وقيل: (الجزاء من جنس العمل) [كشف الخفاء 1 332]، وهذا وإن كان سبب العقوق، لكن ذلك لا يسوغ للأبناء أن يعقوا والديهم بدعوى أنهم فعلوا وفعلوا، بل الولد مأمور بالبِرّ في كل حال، حتى في حال كانوا مشركين.

قال تعالى: {ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا}.

في هذه الآية تسلية لأولئك الذين يجتهدون في البِرّ، فيصيبون تارة وتارة يخفقون لأسباب شتى، أن الله تعالى مطلع على صلاحهم نفوسهم، وصدق إرادتهم، وعارف بخفايا حالهم، وهو يعلم ما هم عليه من جهاد النفس، ولن يضيع لهم أجرهم.***

الكاتب: د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه